
في زمن يهيمن فيه الخطاب الاقتصادي الرسمي على المشهد العام، تأتي مقالة “النهضة المؤجلة: إعادة ابتكار الاقتصاد الأردني في زمن التحول الإقليمي والرقمي” كأحد الأصوات النادرة التي تطرح رؤية نقدية وعميقة لإعادة تعريف الهوية التنموية للأردن. بعين تحليلية واستراتيجية، يحلل الكاتب وائل المنسي واقع الاقتصاد الأردني من منظور غير تقليدي، يدمج بين التحديات البنيوية والفرص الإقليمية والرقمية، ويقترح خارطة طريق شاملة تتجاوز الإصلاحات التقنية نحو تحوّل هيكلي في وظيفة الدولة.
رؤية تتجاوز التحديث التقليدي
تنطلق المقالة من قراءة نقدية لرؤية التحديث الاقتصادي الرسمية، معتبرة أنها رغم طموحها، تظل معرضة للإخفاق في غياب إرادة سياسية فعالة وإصلاحات مؤسسية جذرية. ويطرح المنسي أن النهوض الاقتصادي في الأردن لا يمكن أن يتحقق فقط عبر المبادرات والمصفوفات، بل يتطلب تحولًا جذريًا في آليات صنع القرار، من عقلية “الاسترضاء السياسي” إلى منطق “الكفاءة والسيادة الاقتصادية”.
الاقتصاد الأردني بين نقاط القوة والضعف
تشير المقالة إلى أن الأردن يمتلك مزايا استراتيجية مهمة، كالموقع الجغرافي والموارد البشرية المؤهلة، لكن هذه المزايا تتآكل بفعل تحديات مزمنة، مثل ارتفاع الدين العام، غياب سياسة صناعية واضحة، ضعف بيئة الاستثمار، وتضخم البيروقراطية. ويرى الكاتب أن الفجوة بين مخرجات التعليم واحتياجات السوق هي من أبرز العوائق أمام النمو الشامل، ما يتطلب إصلاحًا تربويًا وهيكليًا متكاملًا.
التموقع الجديد في زمن التحولات الإقليمية
تقدم المقالة قراءة متقدمة للفرص الإقليمية والتحولات العالمية، خاصة في مجالات الطاقة المتجددة، الربط الكهربائي، والذكاء الاصطناعي، وترى أن الأردن أمام فرصة تاريخية لإعادة التموضع داخل سلاسل القيمة العالمية. لكنها تحذّر من أن هذه الفرص لن تتحول إلى مكاسب دون استعداد استراتيجي، وتبني سياسات إنتاجية متقدمة تستثمر في الميزات التنافسية للأردن بدل الاعتماد على المنح والمساعدات.
التكنولوجيا والتنمية العادلة
تلفت المقالة الانتباه إلى ضرورة ربط التحول الرقمي بعدالة اجتماعية، وتحذر من خطر تعميق الفجوة الاجتماعية في ظل التقدم التكنولوجي ما لم تصاحبه سياسات حماية اجتماعية وإعادة توزيع. ويبرز هنا طرح مهم بدعوة الكاتب إلى تبني نموذج اقتصاد السوق الاجتماعي، الذي يوازن بين حرية السوق ودور الدولة في ضمان الحد الأدنى من العدالة.
خارطة طريق إنتاجية وتنموية
تختم المقالة بخارطة طريق واقعية وطموحة في آن، تركز على تعزيز القطاعات القابلة للتصدير (كالدوائية وتكنولوجيا المعلومات)، وتحقيق التوازن بين الاستثمار والإصلاح المؤسسي، وربط التعليم بسوق العمل، ودمج النساء والشباب في الاقتصاد الوطني. ويدعو الكاتب إلى إعادة تعريف دور الدولة كمحفّز للتنمية، وليس مجرد موزع للموارد أو أداة للترضية السياسية.
خلاصة التقرير
تمثل هذه المقالة أحد الإسهامات النادرة التي لا تكتفي بتشخيص الأزمة الاقتصادية الأردنية، بل تقترح رؤية تنموية بديلة ترتكز على الاستقلالية الاقتصادية، الاستثمار في الإنسان، والتكيّف الذكي مع المتغيرات الإقليمية والتكنولوجية. إنها دعوة صريحة لإعادة تعريف الاقتصاد الأردني كأداة لتحقيق السيادة والعدالة، لا كآلية لإدارة الأزمة. وفي ظل ما تشهده المنطقة من تحولات عميقة، قد تكون “النهضة المؤجلة” هي الفرصة الأخيرة لتحقيق التغيير الحقيقي.