
في وقتٍ تتسارع فيه الأحداث في قطاع غزة، ويتعرض أكثر من 2.3 مليون فلسطيني لعدوان دموي ومجازر متواصلة وحصار خانق، برزت مفارقة غير مسبوقة: الدول التي لطالما عُرفت بتحالفها مع إسرائيل بدأت تُغير من خطابها السياسي، وتوجه انتقادات مباشرة للاحتلال، فيما بقي الصمتُ العربيُ هو الثابت الوحيد في هذه المعادلة المتغيرة.
اللافت للنظر أن فرنسا، وكندا، وبريطانيا، والنرويج وغيرهم من حلفاء إسرائيل التاريخيين بدأوا يتخذون مواقف دبلوماسية غير معهودة. تصريحات رسمية تطالب بفرض عقوبات على المستوطنين، وتعليق التعاون الأمني مع تل أبيب، وفتح المعابر لإدخال المساعدات إلى غزة. بل إن بعض المسؤولين الأوروبيين وصفوا إسرائيل بـ”الكيان غير المتجانس”، وهو وصف سياسي غير مسبوق في الساحة الدولية.
في المقابل، كانت العواصم العربية تتبارى في إصدار بيانات خجولة لا تتعدى حدود “القلق”، في وقت ترتكب فيه إسرائيل جرائم حرب موثقة بالصوت والصورة.
صمت مدروس أم خضوع مُهين؟
في استطلاع للرأي أجرته الجزيرة نت، أجمع محللون وخبراء على أن هذا الصمت العربي ليس عارضًا، ولا عفويًا. بل هو نتيجة تراكمات سياسية وأمنية واقتصادية جعلت موقف معظم الأنظمة العربية رهينة لحسابات المصالح والتطبيع والتحالف مع الغرب، لا المبادئ والقيم.
رغد التكريتي، رئيسة مجلس شورى “الرابطة الإسلامية في بريطانيا”، وصفت الموقف الأوروبي بأنه “تحول إيجابي”، جاء بفعل ضغط شعبي مستمر ووعي مجتمعي متنامٍ، مشيرة إلى أن الرابطة ما زالت تنظم مظاهرات لتثبيت هذه التحولات.
تحليل الصمت العربي: بين التحالفات والشرعية الضعيفة
محمد غازي الجمل، الباحث الفلسطيني، ذهب أبعد من ذلك حين أكد أن الصمت العربي “انعكاس لتحولات عميقة في العقيدة السياسية لبعض الأنظمة”، مرجعًا ذلك إلى:
تحوّل المقاومة الفلسطينية إلى خصم سياسي بسبب اتفاقات السلام والتطبيع.
تفريغ الحياة السياسية من مضمونها الحقيقي وتجريم التضامن مع فلسطين.
خشية الأنظمة من ربط الدعم للفلسطينيين بـ”الإرهاب” في ظل الرقابة الغربية.
هشاشة شرعيات الأنظمة العربية واعتمادها على دعم الخارج.
إبراهيم المدهون، المحلل السياسي، أضاف أن جامعة الدول العربية فقدت دورها تمامًا، وأن دعم غزة بات مكلفًا سياسيًا واقتصاديًا لأنظمة تخشى شعوبها وتعيش على الحافة.
أما إياد القرا، فذهب لتحليل أكثر وضوحًا: نتنياهو أنشأ “دائرة للهجرة” لتهجير الفلسطينيين قسرًا إلى دول عربية تحت غطاء “الطوعية”، والعرب لا يفعلون شيئًا سوى إصدار البيانات الفارغة. بل إن بعض الأنظمة بدأت تلوم المقاومة بدلًا من الاحتلال، في خطاب يُعيد إنتاج الرواية الإسرائيلية علنًا.
عندما يصير الغرب أكثر أخلاقية من العرب
من المؤلم أن نرى دولًا مثل النرويج تطالب بفرض عقوبات على إسرائيل، في وقتٍ لا تجد فيه عاصمة عربية واحدة تجرؤ على استدعاء سفير، أو تعليق اتفاقية أمنية، أو حتى إعلان مقاطعة تجارية.
بل إن بعض الدول الغربية بدأت مراجعة اتفاقاتها العسكرية مع إسرائيل، وتناقش وقف تصدير الأسلحة، بينما تستمر بعض الأنظمة العربية في التعاون الاستخباراتي والدعم غير المباشر للاحتلال.
الرسالة إلى الشعوب لا الحكومات
إذا كانت الأنظمة قد فشلت في تمثيل شعوبها، فإن الرسالة اليوم واضحة: الميدان للشعوب. الضغط الشعبي الغربي غيّر المعادلات، وأجبر برلمانيين وحكومات على إعادة النظر في تحالفهم مع إسرائيل.
فما الذي يمنع الشارع العربي من أن يعود إلى الفعل؟
ما الذي يمنع النقابات والجاليات والطلاب والمغتربين من إشعال شعلة جديدة للتضامن؟
وهل نرضى أن يتحول الضمير العربي إلى مجرد متفرج… بينما الغرب نفسه يصرخ رفضًا؟
خاتمة: عن الصمت الذي يساوي التواطؤ
في زمن المجازر… الصمت ليس حيادًا.
وفي زمن الاحتلال… البيانات الرمادية خيانة.
وإن كان الغرب قد بدأ يُراجع تحالفه مع الجلاد، فأين أنتم يا من تدّعون تمثيل الأمة؟
جو بوست – منبر من لا منبر له
نكتب لنكشف… لا لنُرضي
JoPost جو بوست