
في قراءة تحليلية معمقة، يرى الأكاديمي والمفكر السياسي د. علي الطراونة أن تصريحات السفير الأميركي الجديد في تركيا، التي أدان فيها اتفاقية سايكس-بيكو وأعلن وقوف الولايات المتحدة “الجديدة” إلى جانب الشعوب لا فوقها، تعكس تحولاً فكريًا جوهريًا داخل بنية المحافظين في الولايات المتحدة، لا مجرد محاولة للتكفير عن الماضي الاستعماري.
الطراونة يشير إلى صعود مقاربة فكرية جديدة يمكن تسميتها بـ”ما بعد الكولونيالية المحافظة” (Postcolonial Conservatism)، وهي تيار يتجاوز الخطابات الإمبريالية التقليدية دون أن يقع في المثالية اليسارية الطوباوية. هذا التيار، بحسب الطراونة، لا يكتفي بنقد الإرث الاستعماري، بل يسعى لتفكيك آليات الهيمنة الأميركية الجديدة، سواء عبر “الليبرالية التبشيرية” أو منطق “صدام الحضارات” أو التمدد العسكري.
ويضع الكاتب هذا التوجه في سياق نقدي أوسع، مشيراً إلى أسماء مفكرين محافظين كباتريك دينين وثيودور لوي، الذين أعادوا مساءلة المشروع الليبرالي من جذوره، مؤكدين أن الليبرالية لا تنهار بفعل الهزيمة، بل بسبب إفراطها في النجاح، وتحوّلها إلى أيديولوجيا سلطوية تفرض نفسها عبر مؤسسات العولمة.
التحوّل في الفكر المحافظ الأميركي، بحسب المقال، ينعكس في مواقف عملية عبّر عنها الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، حين أكد في قمة الرياض 2017 أن بلاده “لا تأتي لتقول للآخرين كيف يعيشون”، بل لتعرض شراكة تقوم على السيادة المتبادلة.
ويرى الطراونة أن الصالح العام الدولي لا ينبثق من الوصاية بل من الانتماء، وأن العقيدة الدينية والهوية الثقافية تمثلان عناصر حصانة أخلاقية وسياسية لا يمكن تهميشها، رغم محاولات الليبرالية الإمبريالية تقويضها.
وفي سياق تفاعلي مع المفكر عماد العالم، يستعيد الطراونة قول الأخير إن “الليبرالية احتكرت مفهوم الحرية”، ليبني على ذلك بأن ما بعد الكولونيالية المحافظة تطرح تصوراً جديداً للحرية يقوم على الشراكة لا الاستعلاء، والاعتراف لا الإلغاء.
ويختم د. الطراونة بالتحذير من أن هذا التيار، رغم مناهضته لسايكس-بيكو، يعيد تثبيت واقع الدول القُطرية كإطار لا مفر منه، ما يجعله يتعامل مع الهويات كوقائع لا يمكن تجاوزها. ويشير إلى أن نجاح هذا الاتجاه تجلى في “الاتفاقيات الإبراهيمية” وفي تراجع مركزية القضية الفلسطينية في السياسات الأميركية الأخيرة، وهو نجاح جاء، في نظره، نتيجة لهزيمتين: هزيمة الليبرالية وهزيمة الفكر القومي بشقيه الديني والعرقي.
ويؤكد أن الحل لا يكمن في الحنين إلى وحدة مفقودة، بل في بناء شراكات تعترف بالهويات، وتسعى إلى “وحدة الفعل لا وحدة الكيان”.